د.محمد العيسى من معتقلات النظام إلى أعلى المراتب العلمية في ألمانيا
يمثل د.محمد العيسى مثالاً للعقول السورية التي تعرضت للقمع والاعتقال والتهديد بالتصفية بسبب موقفه السياسي ومعارضته للنظام السوري، نشأ محمد في مدينة بصرى الشام في الجنوب في محافظة درعا، والتي كانت من أوائل المدن التي صرخت بوجه النظام وقدمت من الشهداء والمعتقلين ككل مدينة سورية ولم تقبل ظلم الأسد حسب تعبيره.
محمد هو أخ الشهيد الشاب مالك العيسى والذي كان من أوائل من صرخ بالحرية في جامعة حلب في الأيام الأولى للثورة، تعتبر قصة محمد العيسى من القصص المميزة التي تثبت أن الإصرار والطموح ليس لهما حد، وهو ما تلمسه في تفاصيل تلك القصة التي جعلته اليوم أحد المميزين على مستوى العالم في اختصاص يعتبر من الأصعب فكيف كانت مسيرة محمد حتى وصوله إلى ألمانيا مروراً بعمله ضمن الحراك الثوري؟
د. محمد النشأة والدراسة:
نشأ محمد العيسى في مدينة بصرى الشام من محافظة درعا ودرس فيها حتى المرحلة الثانوية، ويقول في حديث مطوّل وخاص لـمنصة تمكين الشباب ” إن عائلته هي من غرست حب العلم في نفسه منذ الصغر، كما أن أهالي بصرى يعرفون والده الأستاذ أحمد العيسى جيداً والذي خرّج أجيالاً عديدة من طلاب حوران منذ بداية سبعينيات القرن الماضي.
اختار محمد أن يختص في الفيزياء (المادة التي يحبها منذ صغره) بعد إنهائه الثانوية بمعدلٍ عالٍ، وتمكن من دخول جامعة دمشق في عام 2004، وتخرج عام 2008 لتبدأ مرحلة جديدة في حياته وهي الخطوة الأولى في طريق نجاحه.
بدأ بعدها محمد دراسة الماجستير في “الوقاية الإشعاعية وأمان المصادر المشعة وأمنها” في جامعة دمشق وهيئة الطاقة الذرية السورية، وتصادفت بعد ذلك انطلاقة الثورة مع بداية عمله في هيئة الطاقة الذرية السورية في قسم (الوقاية والأمان والإشعاعي) وبشكل موازي تابع دراسة الماجستير، التي عَنْوَن فيها أطروحتها بـ (تقدير التأثيرات الإشعاعية والبيئية لمنشأة تخلص من النفايات المشعة في صناعة النفط والغاز).
د. العيسى كثائر واعتقاله:
بدأ نشاط محمد الثوري يظهر منذ اللحظة الأولى لانطلاق المظاهرات بدرعا البلد، ويذكر أن اعتقال الشهيد مالك في اليوم الثاني لبدء المظاهرات في مدينة درعا أشعل نيران في قلبه ورؤيته للقتل والدماء التي سالت كان أشد ألماً ووقعاً على حياته، يضاف إلى ذلك فقدانه للعديد من الأصدقاء الشهداء كرّس قناعته التي كانت من قبل الثورة أن لا حياة بوجود هذا النظام.
مع ذلك يؤكد لنا أن العلم هو الموازي للثورة على الظلم للنهوض بالمجتمعات, وهو سلاح أقسى وأشد على كل من يحارب الإنسانية، ولابد من استمراره مهما كانت الظروف، وهو ما دفعه للاستمرار في عمله ودراسته في دمشق.
وبشكل موازٍ لعمله في المجال الإغاثي وتأسيس اللبنة الأولى لمجلس الإدارة المحلي، في تلك الفترة شارك محمد بدورة في دولة المجر تحت عنوان (المقاييس الإشعاعية المحمولة) بترشيح من الوكالة الدولية للطاقة الذرية كما فاتته دورتين بسبب الظروف السيئة التي حدثت إبان حصار درعا، وكانتا في مجال النفايات المشعة ضمن برنامج أيضاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأولى في أبو ظبي والثانية في النمسا.
قام محمد بالدفاع عن أطروحة الماجستير في الشهر الخامس من عام 2012 وبعدها كان القرار نهائياً بترك عمله في هيئة الطاقة الذرية السورية والاستقرار في مدينته “بصرى الشام” حتى تاريخ 10 أبريل 2013.
كانت محاولة تقديمه المساعدة في المجالين الإغاثي والتنظيمي سبّبا لاحقاً باعتقاله من بيته من قبل شبيحة النظام من عناصر حزب الله، وقاموا بتسليمه لمفرزة الأمن العسكري في بصرى الشام، وتحويله بعد ذلك لفرع الأمن العسكري بالسويداء، وبعد التحقيق تم نقله للفرع 291 في دمشق كفرسوسة، ومن ثم إلى الشرطة العسكرية في القابون نهاية إلى سجن عذرا, على الرغم عدم وجود تهمة واضحة له وإنما تم اعتقاله لأسباب عنصرية بحتة.
خلال فترة سجن محمد أصيب أخاه الأصغر مهند وتم إسعافه إلى المملكة الأردنية الهاشمية لضعف الإمكانيات في المشفى الميداني في ذلك الوقت، وخطورة حالته الصحية بالإضافة لعدم إمكانية علاجه في المشافي الخاضعة لسيطرة النظام خوفاً من التصفية.
خرج محمد من السجن ليعود لنشاطه في المجال الإغاثي والإنساني ضمن المناطق المحررة، مع عدم قدرته على العودة للبيت بسبب تهديدات الشبيحة بالتصفية كون مدينة بصرى لم تكن محررة في تلك الفترة، حيث كان يقع منزله ضمن مناطق سيطرتهم.
السفر للأردن واستشهاد شقيقه المهندس مالك:
بعد مكوثه في بصرى الشام لبضعة أشهر قرر محمد الخروج للأردن عن طريق المعابر الثورية آنذاك للاطمئنان على صحة أخيه وزيارة والدته المقيمة معه ليصل فجراً، وظهر اليوم التالي وصل خبر استشهاد مالك، الشاب الذي درس الهندسة المعمارية في حلب، واعتقل عدة مرات ليستشهد بعدها، وفي هذا الوقت كان قرار محمد نهائياً بعدم العودة إلى سوريا، مادام بشار الأسد يحكمها.
كان القرار المناسب بالنسبة للعائلة التي لم تعد تحتمل أكثر من ذلك وقناعتهم بأن بناء سوريا المستقبل لا يكون فقط بالإغاثة والتنظيم ضمن سوريا، وأيضاً بالعلم والتقنية لبناء سوريا المستقبل، وربما هذا السبب الذي دفعهم للبقاء في الغربة.
سفر د. محمد إلى ألمانيا ورحلة الدراسة:
حصل محمد على فيزا دراسية إلى ألمانيا وسافر بشكل مباشر ليبدأ تحدي جديد وأصعب من السابق حسب وصفه فبدأ بتعلم اللغة الألمانية، وكون فيزته دراسية ولا يتلقى أي مساعدات مادية من الحكومة، كان لا بد عليه أن يعمل إلى جانب الدراسة وكان لا بد من إنهاء مستويات اللغة الألمانية المعروفة بصعوبتها بأسرع وقت، وبالتالي عمل في مطعم شاورما تركي لمدة عشرة أشهر لجانب تعلم اللغة والتي أنهى خلالها المستوى المطلوب للجامعة في أقل من عام.
كان هدف محمد دائماً هو متابعة دراسة الدكتوراه لكن أحد الأشياء التي تغيرت أنه أراد تغيير المجال من الوقاية الإشعاعية ومجاله الذي اختص وبرع فيه سابقاً وهو النفايات المشعة، إلى مجال جديد وهو علاج السرطان الإشعاعي، فبدأ رحلة البحث عن الدكتوراه وحتى لايضيع وقته في البحث قام أيضاً بالتسجيل في ماجستير الفيزياء الطبية في جامعة وسط هيسن التقنية.
د.محمد العيسى وبداية الدراسة
ببداية دراسة الشاب الطموح محمد الماستر لاحظ عميد كلية العلوم ومدير الماجستير تميزه وسرعة بديهته من خلال الأسئلة التي كان يطرحها ومن خلال نقاشاته العلمية في المحاضرة، فعرض عليه بعد شهر من بداية الماستر أن يبدأ تحت إشرافه في الدكتوراه، لتبدأ قصة نجاح جديدة, وعلاقة متميزة وفريدة من نوعها بين البروفيسور المشرف وابن مدينة بصرى الشام.
إقرأ ايضا دراستنا حول الآليات والاستراتيجيات لتعزيز دور الشباب في المجتمع
حصل محمد على منحة كطالب ماستر من وزارة التعليم والثقافة وهي منحة “هيسن فوندز” لأصحاب الكفاءات المميزة، وتم تكريمه من قبل وزير التعليم الألماني لولاية هيسن في بداية مسيرته الدراسية مما أظهر له كيف أن التميز لا يتم تجاهله في ألمانيا ويمكن للشخص بتميزه أن يصل لأبعد الحدود دون قيود.
كان مشروع الدكتوراه لمحمد في كلية الطب بجامعة” ماربورغ” بالاتفاق مع جامعة “وسط هيسن التقنية” تحت عنوان (الجرعات الإشعاعية للفوتونات عالية الطاقة بوجود الحقول المغناطيسية)، الموضوع الذي كان جديد وفيه الكثير من التحديات العلمية والبحثية التي كان لابد له من تجاوزها.
مع بداية دراسة الدكتوراه قدم على منحة جديدة من وزارة العلوم والثقافة كطالب دكتوراه وحصل على المنحة وتم تكريمه من رئيس الجامعة ضمن حفل موسيقي وحضور عدد كبير من الطلبة وأعضاء جامعة وسط هيسن التقنية، ومع ذلك لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما رشح للحصول على منحة من حزب اليسار الألماني وأصبح عضواً في منظمة “روزا لوكسمبورغ السياسية” والتي مولت دراساته لمدة 3 سنوات وتعتبر هذه المنحة من أصعب المنح في ألمانيا، لكن بسبب نشاطاته العلمية وعلى الصعيد الاجتماعي وجدت المنظمة أنه الشخص المناسب للحصول على هذا الدعم السياسي والعلمي.
من الإنجازات التي يفتخر فيها محمد وتعتبر أنها فخر لكل إنسان تحدى الظروف وحقق النجاح في ألمانيا
” اختياره من قبل لجنة تحكيم على مستوى الولاية وبترشيح من جامعته ضمن أفضل 20 شخصية من أصول أجنبية في ولاية هيسن”
كان أغلب المكرمين في هذا الحدث من البروفيسورات على مستوى العالم ومنهم رؤساء جامعات، وأصحاب شركات محاماة وأطباء ممن قدموا أكبر الاكتشافات في ألمانيا، ويفسر محمد كما ذكر له وزير الاندماج وقتها سبب اختياره من ضمن شخصيات بهذا المستوى، أنه الأصغر سناً منهم وحقق إنجازات هائلة خلال سنوات قليلة، وربما خلال الفترة التي تواجدوا فيها في ألمانيا لا شك أنه سيحقق أكثر منهم.
حصل خلال التكريم على شهادة من وزير الشؤون الاجتماعية والاندماج ضمن حفل كبير في ” قصر بيبرش” في عاصمة الولاية بالإضافة لنشر كتاب صادر عن الوزارة كتكريم لكل الشخصيات يذكر فيه إنجازات كل شخص ممن تم تكريمهم ليتصدر اسمه هذا الكتاب كأول شخصية.
جمعية مالك:
قام محمد بتأسيس جمعية مرخصة في ألمانيا تحمل اسم مالك وتعمل الجمعية على دعم الطلاب الأجانب في ألمانيا وبالأخص اللاجئين السوريين، ولاقت فكرة الجمعية منذ تأسيسها اهتماماَ كبيراً من الشخصيات الأكاديمية والاجتماعية المعروفة في ألمانيا, وقام بمساعدة عدد كبير من الطلاب في الحصول على المنح والقبولات وتوجيههم بدراستهم وحتى مساعدة عدد كبير من الطلاب بالحصول على مقعد للدكتوراه.
د.محمد العيسى اليوم:
أنهى محمد العيسى اليوم دراسة الدكتوراه وحقق هذا الإنجاز الذي لاقى أصداءاً إعلامية كبيرة بسبب صعوبة الاختصاص والأشياء التي قام بإضافتها إلى مجال علاج السرطان الإشعاعي، ففي مشروعه الذي قام فيه بدراسة الجرعات الإشعاعية لجهاز حديث جداً دخل خلال فترة قريبة في العمل لتشعيع المرضى, قدم نتائج تستخدم بشكل مباشر على مستوى العالم في تحسين جودة العلاج الإشعاعي.
وكما السابق فكان لابد من إجراء نقلة نوعية في حياته تتماشى مع هذا الإنجاز ومع طموحاته المستقبلية،
وكانت محطته الجديدة هي مدينة “كولونيا” في ألمانيا ليكون مديراً للفيزيائيين الطبيين في شركة تتكون من 3 مشافي لعلاج السرطان مزودة هذه المراكز بأحدث الأجهزة والتقنيات المستخدمة في مكافحة هذا المرض الصعب.
يذكر د.محمد في هذا السياق أن هذا التحدي الجديد والمهمة الجديدة تتوافق تماماً مع مجال طموحه وهي خطوة جديدة ضمن أهدافه المستقبلية التي لازال يسعى لها، فهي تحمل الكثير من المسؤولية والكثير من الجديد لتعلمه، كما أنها بيئة مختلفة تماماً عن خبرته الأكاديمية السابقة، وحتى الآن يستمتع محمد بكل يوم يقضيه بعمله الجديد, وكل جديد يتعلمه فيه ليتماهى مع خبراته السابقة.
د.محمد العيسى ورؤيته المستقبلية وإلى ماذا يطمح؟
يصرح محمد أنه لا يرى أملاً على المستوى القريب في سوريا، فالدكتاتور والمرتزقة يجلسون على أشلاء هذا البلد دون أي اهتمام للشعب السوري، سواء أكانوا من المؤيدين أو من المعارضين أو الرماديين، لكن يؤكد أن كل شيء سيتغير وهذا حال هذه المنطقة من العالم أن تمر بتقلبات من الدكتاتورية لكن أهل سورية قادرون على تجاوز المنح وعلى تحقيق النصر حتى ولو طال.
أما على الصعيد الشخصي فيحتفظ محمد حالياً بمخططاته ويذكر أنه سيركز في ال10 سنوات القادمة على مهمته الحالية ومسؤوليته الصعبة،
وقال لنا ممازحاً، طامحاً، ربما بعد 10 سنوات سنجري مقابلة وأنا أمتلك أحد مشافي علاج الأورام في ألمانيا.
كيف يمكن أن يكون نجاح العيسى ملهمًا للآخرين ورأيه في نجاحات السوريين في بلدان اللجوء؟
يؤكد محمد العيسى أن نجاحه هو جزء صغير من نجاحات السوريين في بلدان اللجوء، والنجاح لا يعني فقط أن تحقق إكتشاف علمي أو تخترع شيء جديد، أي إنجاز للسوريين هو نجاح وتميز وخصوصاً بهذه الفترة القصيرة ورغم كل المآسي والظروف.
تجد الآن في كل شارع وفي كل مكان سوريين تجاوزوا كل الجنسيات الأخرى في ألمانيا بترك بصمتهم، فالشعب السوري شعب حي وقادر وسريع التأقلم،وبشيء من الأمل يقول محمد
“رغم أن النظام اعتقد أنه بقمعنا وقتل أحلامنا في سورية سيقضي على كل أمل فينا لكن ذلك ليس صحيح فما حصل على المدى البعيد سيكون شيء مهم ونقلة كبيرة للسوريين فيما سيجلبونه إلى سورية من خبرات وإمكانيات وحتى دعم اقتصادي، عدى عن طريقة التفكير العملية والتنظيم والدقة التي يتعلمها الإنسان في ألمانيا”
ورغم أن العديد يصرح أنه لن يعود إلى سورية لكن يؤكد العيسى أن عدد كبير سيعودون وسيكونون من خيرة الأشخاص, وسيكونوا قادرين على بناء سورية أفضل من ألمانيا.
د.محمد العيسى ورسالته للشباب:
أود أن أوجه رسالة لكل فتاة وشاب سوري بعدم فقد الأمل رغم سوء الظروف فلا يوجد نجاح من دون فشل،
لكن المهم الاستمرار والصبر والمثابرة، كما أتمنى من الأهل فهم أبنائهم وإمكانياتهم بشكل أفضل، وعدم التركيز على الطب أو الهندسة فهي ليست قبلة الطلاب، والخيار الوحيد، فهناك من الاختصاصات والمجالات مايتفوق على الطب في الأهمية لكن المهم ما يحبه الطالب وما يجد نفسه فيه.